الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: فلما فرغ الهدهد من كلامه {قال} سليمان {سننظر أصدقت} أي فيما أخبرت {أم كنت من الكاذبين} ثم إن الهدهد دلهم على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدواب، ثم إن سليمان كتب كتابًا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين قيل لم يزد على ما نص الله في كتابه، وكذلك الأنبياء كانوا يكتبون جملًا، لا يطيلون ولا يكثرون فلما كتب سليمان الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} إنما قال: إليهم بلفظ الجمع لأنه جعله جوابًا لقول الهدهد وجدتها وقومها يسجدون للشمس فقال: فألقه إلى الذين هذا دينهم {ثم تول عنهم} أي تنح عنهم فقف قريبًا منهم {فانظر ماذا يرجعون} أي يردون من الجواب وقيل: تقدير الآية فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنه، أي انصرف إلي فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به بلقيس وكانت بأرض مأرب من اليمن على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها وكذلك كانت تفعل إذا رقدت فآتى الهدهد وألقى الكتاب على نحرها وقيل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على المرأة وحولها القادة والوزراء والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت بلقيس رأسها فألقى الكتاب على حجرها وقال وهب بن منبه: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد، وسد الكوة بجناحيه فارتفعت الشمس، ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت، وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكًا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد وجاءت هي حتى قعدت على سرير ملكها، وجمعت الملأ من قومها وهم الأشراف وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة قيل مع كل قيل مائة ألف والقيل ملك دون الملك الأعظم وقيل كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، كل رجل منهم على عشرة آلاف فلما جاءوا وأخذوا مجالسهم.{قالت} لهم بلقيس {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم} قيل سمته كريمًا لأنه كان مختومًا، روى ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه سلم قال «كرامة الكتاب ختمه» وقال ابن عباس: كريم أي شريف لشرف صاحبه، ثم بينت ممن الكتاب فقالت {إنه من سليمان} قرأت المكتوب فيه فقالت {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} فإن قلت لم قدم إنه من سليمان على بسم الله.قلت: ليس هو كذلك بل ابتدأ سليمان ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس، أن هذا الكتاب من سليمان ثم ذكرت ما في الكتاب فقالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم {ألا تعلوا علي} قال ابن عباس: لا تتكبروا علي.والمعنى لا تمتنعوا من الإجابة فإن ترك الإجابة، من العلو والتكبر {وأتوني مسلمين} أي طائعين مؤمنين وقيل من الاستسلام وهو الانقياد {قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري} أي أشيروا علي فيما عرض علي {ما كنت قاطعة أمرًا} أي قاضية وفاصلة {حتى تشهدون} أي تحضرون {قالوا} يعني الملأ مجيبين لها {نحن أولو قوة} أي في الجسم على القتال {وأولو بأس شديد} أي عند الحرب وقيل أرادوا بالقوة كثرة العدد والبأس والشجاعة وهذا تعريض منهم بالقتال أي إن أمرتهم بذلك قالوا {والأمر إليك} أيتها الملكة أي في القتال وتركه {فانظري ماذا تأمرين} أي تجدين مطيعين لأمرك {قالت} بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال وما يئول إليه أمره {إن الملوك إذا دخلوا قرية} أي عنوة {أفسدوها} أي خربوها {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر تحذرهم بذلك مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ثم تناهى الخبر عنها هنا، وصدق الله قولها فقال تعالى: {وكذلك يفعلون} أي كما قالت هي يفعلون وقيل هو من قولها وهو للتأكيد لما قالت ثم قالت {وإني مرسلة إليهم بهدية} يعني إلى سليمان وقومه أصانعه بها على ملكي، وأختبره بها أملك هو أم نبي فإن كان ملكًا قبل الهدية ورجع، وإن كان نبيًا لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه في دينه وهو قولها {فناظرة بم يرجع المرسلون} وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة عاقلة قد ساست الأمور، وجربتها فأهدت وصفاء ووصائف.قال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة قال وهب وغيره عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لبس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب، وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة، وشنوفًا مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة، والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجواهر، وأغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من الذهب ولبنات من الفضة وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت، وأرسلت بالمسك والعنبر والعود اليلنجوج وعمدت إلى حق جعلت فيه درة بقيمة ثمينة غير مثقوبة، وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلًا من أشراف قومها يقال له: المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالًا من قومها أصحاب عقل ورأي وكتبت مع المنذر كتابًا تذكر فيه الهدية، وقالت: إن كنت نبيًا ميز بن الوصفاء والوصائف، وأخبرنا بما في الحق قبل أن تفتحه واثقب الدرة ثقبًا مستويًا وأدخل في الخرزة خيطًا من غير علاج إنس ولا جن، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول انظر إذا دخلت، فإن نظر إليك نظرًا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك أمره ومنظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا فافهم أنه نبي فتفهم قوله ورد الجواب فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سليمان، فأخبره فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنًا من الذهب والفضة، ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار تسعة فراسخ وأن يفرشوا لبن الذهب والفضة، وأن يخلوا مقدار تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حائطًا شرفه من الذهب والفضة، ففعلوا ثم قال أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا يا نبي الله ما رأينا أحسن من دابة من دواب البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال: علي بها الساعة فأتوا بها قال شدوها بين يمين الميدان وشماله ثم قال للجن علي بأولادكم، فاجتمع منهم خلاق كثير فأقامهم على يمين الميدان، وعلى شماله وأمر الإنس والجن والشياطين، والوحوش والطير والسباع فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم إلى الميدان ونظروا إلى ملك سليمان رأوا أول الأمر الدواب، التي لا يرى مثلها تروث في لبنات الذهب والفضة، فلما رأوا ذلك تقاصرت أنفسهم وخبؤوا ما معهم من الهدايا وقيل إن سليمان فرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، وترك على طريقهم موضعًا على قدر ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا خافوا أن يتهموا بذلك، فوضعوا ما معهم من اللبن في ذلك الموضع فلما رأوا الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كراديس الإنس والجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان، فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم تلقيًا حسنًا، وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه، فقال لهم: أن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة معوجة الثقب قال الرسول: صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان: من لي بثقبها وسأل الإنس والجن، فلم يكن عندهم علم ثم سأل الشياطين فقالوا: نرسل إلى الأرضة فلما جاءت الأرضة أخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال سليمان ما حاجتك قالت: تصير رزقي في الشجر.فقال: لك ذلك ثم قال من لي بهذه الخرزة فقالت دودة بيضاء أنا لها يا نبي الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر.فقال لها سليمان: ما حاجتك فقالت يكون رزقي في الفواكة قال: لك ذلك ثم ميز بن الغلمان والجواري، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها، تضرب بها الآخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها والغلام على ظاهره فميز بين الغلمان والجواري، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله تعالى.فقال تعالى: {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله} أي ما أعطاني من الدين والنبوة والحكمة والملك {خير} أي أفضل {مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون} معناه أنتم أهل مفاخرة ومكاثرة بالدنيا تفرحون بإهداء بعضكم إلى بعض، وأما أنا فلا أفرح بالدنيا وليست الدنيا من حاجتي لأن الله قد أعطاني منها ما لم يعط أحدًا ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد {ارجع إليهم} أي بالهدية {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي لا طاقة {لهم بها ولنخرجنهم منها} أي من أرض سبأ {أذلة وهم صاغرون} أي إن لم يأتوني مسلمين قال وهب وغيره من أهل الكتاب: لما رجعت رسل بلقيس إليها أي من عند سليمان، وبلغوها ما قال سليمان قالت والله لقد عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة.فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات بعضها داخل بعض ثم أغلقت عليه سبعة أبواب، ووكلت به حراسًا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على ملكها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي لا يخلص إليه أحد، ثم أمرت مناديًا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في أثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن كل قيل تحت يده ألوف كثيرة، قال ابن عباس: وكان سليمان رجلًا مهيبًا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه.فخرج يومًا فجلس على سريره فرأى رهجًا قريبًا منه قال ما هذا؟ قالوا: بلقيس قد نزلت منا بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان فأقبل سليمان على جنوده {قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرضها قبل أن يأتوني مسلمين} قال ابن عباس يعني طائعين وقيل مؤمنين.
|